mercredi 14 octobre 2009

المقامة الواحدة والعشرون ـ المقامة المَوصِلِيََّة / Al-Maaqâma al-mûsiliya




: حدثنا عِيسى بْن ُ هِشامٍ قال
لمَّا قَفلْنا مِنَ المَوْصِلِ، وهَمَمْنا بالمَنزِلِ، ومَلَكَت علينا القافِلَةُ، وأُخِذَ مِنَّا الرَّحْلُ والرَّاحِلة، جَرَتْ بي الحُشاشَة إلى بَعْضِ قُراها، ومعي الإسكندري أبو الفَتْحِ، فقُْْلْتُ : أَين نَحْنُ مِنَ الحِيلَةِ ؟ فقالَ : يَكْفي اللَّهُ، وَدُفِعْنا إلى دارٍ قد ماتَ صاحِبُها، وقامَتْ نَوادِبها، واحْتَفَلَتْ بِقَوْمٍ قَد كَوى الجَزَعُ قُلوبَهُم، وشَقَّتِ الفَجيعَةُ جُيُوبَهُمْ، ونِساءٍ قد نَشَرْنَ شُعورهُنَّ، يَضْرِبْنَ صُدورَهُنَّ، وَشَدَدْنَ عُقودَهُنَّ، يَلْطِمْنَ خُدودَهُنَّ، فَقالَ الإسكندري : لَنا في السَّوادِ نَخْلَةٌ، وفي هذا القَطيعِ سَخْلَةٌ، ودَخَلَ الدَّار لِيَنْظُرَ إلى المَيْتِ وقد شُدَّتْ عِصابَتُهُ لِيُنْقَلَ، وَسُخِّنَ ماؤُهُ لِيُغْسَلَ، وَهُيِّئَ تابوتُهُ لِيُحْمَلَ، وخِيطَتْ أَثْوابُهُ لِيُكَفَّنَ، وَحُفِرَتْ حَفْرَتُهُ لَيُدْفَنَ، فَلمَّا رآهُ الإسكندريُّ أَخَذَ حَلْقَهُ، فَجَسَّ عِرْقَهُ، فَقالَ : يا قَوْمُ اِتَقوا اللَّهَ لا تَدفُنُوهُ فَهوَ حَيٌّ، وإنَّما عَرَتْهُ بَهْتَةٌ، وعَلَّتْهُ سَكْتَةٌ، وأنا أُسَلِّمُهُ مَفْتُوحَ العَيْنَيْنِ، بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فقالوا : مِنْ أَيْنَ لَكَ ذلكَ ؟ فَقالَ : إِنَّ الرَّجُلَ إَذا ماتَ بَرَدَ اسْتُهُ وهذا الرَّجُلُ قد لَمَسْتُهُ فَعَلِمْتُ أنَّهُ حَيٌّ، فَجَعَلوا أيْديهِم في اسْتِهِ، فقالوا : الأَمْرُ على ما ذَكَرَ، فافْعَلوا ما أمَرَ، وقامَ الإسكندري إلى المَيِّتِ، فَنَزَعَ ثِيابَهُ ثُمَّ شَدَّ لَهُ العَمائِمَ، وعَلَّق عَلَيه تَمائم، وأَلعَقَهُ الزَّيْتَ، وأَخْلى لَهُ البَيْتَ، وقال : دَعُوهُ، ولا تُرَوِعوهُ، وإنْ سَمِعْتُمْ لهُ أنيناً فلا تُجيبوهُ، وخَرَجَ مِنْ عِندِهِ وقد شاعَ الخَبَرُ وانْتَشَرَ، بأَنَّ المَيِّتَ قد نُشِرَ، وأَخَذَتْنا المَبارُّ، مِنْ كُلِّ دار، وانْثالَتْ عَلَيْنا الهَدايا مِنْ كُلِّ جار، حَتَّى وَرِمَ كِيسُنا فِضَّةً وتِبْراً، وامْتَلأَ رَحْلُنا أَقِطاً وتَمْراً، وَجَهَدْنا أَن نَنْتَهِزَ فُرْصَةً في الهَرَبِ فَلَمْ نَجِدْها، حتَّى حَلَّ الأَجَلُ المَضْروبُ، واسْتَنْجَزَ الوَعْدُ المَكْذوبُ فقال الإِسكَندري : هَلْ سَمِعْتُمْ لِهَذا العَليلِ رِكزاً، أو رأَيْتُمْ مِنْهُ رَمْزاً ؟ فَقالوا : لا، فقالَ : إِنْ لَمْ يَكُنْ صَوَّتَ مُذْ فارَقَتُهُ، فَلَمْ يَجِئْ بَعْدُ وَقْتُهُ، دَعوهُ إلى غَدٍ فإَنَكُمْ إِذا سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ، أَمِنْتُمْ مَوْتَهُ، ثُمَّ عَرِّفوني لأَحْتالَ في عِلاجِهِ، وإِصْلاحِ ما فَسَدَ مِنْ مِراجِهِ، فقالوا : لا تُؤَخِرْ ذَلِكَ عَنْ غَدٍ، قالَ : لا، فَلَمَّا اِبْتَسَمَ ثَغْرُ الصُبْحِ، واِنْتَشَرَ جَناحُ الضَّوِّ، في أُفُقِ الجْوِّ، جاءَهُ الرِّجالُ أَفواجاً، والنِساءُ أَزْواجا، وقالوا: نُحِبُّ أَنْ تَشْفي العَليلَ، وَتَدَعَ القالَ والقيلَ، فَقالَ الإسكندري : قُوموا بِنا إِلَيْهِ، ثُمَّ حَدَرَ التَّمائمَ عَنْ يَدِهِ، وَحَلَّ العَمائمَ عَنْ جٍَسَدِهِ، وقالَ : أَنيموهُ على وَجْهِهِ، فأُنيمَ، ثُمَّ قالَ : أَقيموهُ على رِجْلَيْهِ، فأُقيمَ، ثُمَّ قالَ : خَلُّوا عَنْ يَدَيْهِ، فَسَقَطَ رأساً، وَطَنَّ الإسكندريُّ بِفَيِهِ وقالَ : هوَ مَيِّتٌ كَيْفَ أُحْييهِ ؟ فأَخَذَهُ الخُفُّ، ومَلَكَتْهُ الأَكُفُّ، وصارَ إِذا رُفِعَتْ عَنْهُ يَدٌ وٌَقَعَتْ عَلَيهِ أُخرى، ثُمَّ تَشاغَلوا بِتَجْهيزِ المَيِّتِ، فانْسلَلْنا هارِبينَ حتَّى أَتَيْنا قَرْيَةً على شَفيرِ وادٍ السَّيْلُ يُطَرِّفُها والماءُ يَتَحَيَّفُها وأَهْلُها مُغْتَمُّونَ لا يَمْلِكُهُمْ غُمْضُ اللَّيلِ، مِنْ خِشْيَةِ السَّيْلِ، فقالَ الإسكندريُّ : يا قَوْمُ أَنا أَكْفيكُمْ هذا الماءَ ومَعَرَّتَهُ، وأَرُدُّ عَنْ هذه القَرْيَةِ مَضَرَّتَهُ، فأَطيعوني، ولا تُبْرِموا أَمْراً دوني، وقالوا : وما أَمْرُكَ ؟ فقالَ : اِذْبَحوا في مَجْرى هذا الماءِ بَقَرَةً صَفْراءَ، وأُتوني بِجاريةٍ عَذْراءَ، وَصَلُّوا خَلْفي رِكْعَتَيْنِ يَثْنِ اللَّهُ عَنْكُمْ عِنانَ هذا الماءِ، إلى الصَّحراءِ، فإِنْ لَمْ يَنْثَنِ الماءُ فَدَمي عَلَيْكُمْ حَلالٌ، قالوا : نَفْعَلُ ذلِكَ، فَذَبَحوا البَقَرَةَ، وزَوَّجوهُ الجارِيَةَ، وقامَ إلى الرُّكعَتَيْنِ يُصَلِّيهِما، وقالَ : يا قَوْمُ اِحْفَظوا أَنْفُسَكُمْ لا يَقَعْ مِنْكُمْ في القِيامِ كَبْوٌ، أو في الرُّكوعِ هَفْوٌ، أَو في السُّجودِ سَهْوٌ، أَو في القُعودِ لَغوٌ، فَمَتى سَهَوْنا خَرَجَ أَمَلُنا عاطِلاً، وَذَهَبَ عَمَلُنا باطِلاً، واصْبِروا على الرُّكعَتَيْنِ فَمسافَتُهما طَويلَةٌ، وقامَ للرُّكْعَةِ الأُولى فَانْتَصَبَ اِنْتِصابَ الجِذْعِ، حتَّى شَكوا وَجَعَ الضِّلْعِ، وَسَجَدَ، حتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ قد هَجَدَ وَلَمْ يَشْجُعوا لِرَفْعِ الرُؤوسِ، حتَّى كَبَّرَ للجُلوسِ، ثُمَّ عادَ إِلى السَّجْدَةِ الثانِيَةِ، وأَوْمأَ إليَّ، فأَخَذْنا الوادي وَتَرَكْنا القَوْمَ ساجِدينَ، لا نَعْلَمُ ما صَنَعَ الدَّهْرُ بِهِمْ، فأَنْشأَ أَبو الفَتْحِ يَقولُ
وأَيْنَ مِثْلي أَيْنا ؟
لا يُبْعِدُ اللَّهُ مِثْلي
! غَنِمْتُها بِالهُوَيْنا
للَّهِ غَفْلَةُ قَوْمٍ
وَكِلْتُ زُوراً وَمَيْناً
اَكْتَلْتُ خَيْراً عَلَيْهِمْ
+++
الأقط : اللَّبن يجعل فيه الملح ويجفف، الجبن
الرَّكز : الصوت الخفي
الطنين : صوت الذباب، تعني في النص أنه عبر بأضعف الأصوات
الخُف : الحذاء
الغمض : النوم
معرَّة : أذى
يثني : يحول
هجد : نام
الهوينا : السهل المنال
اِكتلت عليهم : أي أخذت منهم بدون جدٍ وعناء
الحُشاشة : ما تبقى من الحياة
الجزع : الحزن
الجيوب : جمع جيب وهو طوق القميص ونحوه من الثياب
السَّواد : النخيل المتكاثف
السَّخلة : ولد الضأن ذكراً أو أنثى
السكتة : نازلة بالمخ تعطل المرء عن أعمال الأحياء
الاِست : الشرج وقد يكون المقصود هنا الإبط
ألعقه : وضع في فمه
التَّبر : الذهب قبل أن يسك نقداً
الرحل : الوعاء الذي يوضع فيه متاع المسافر
+++
اُستخرج النص من كتاب شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني للمؤلف محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان

Aucun commentaire: